10-يونيو-2023
مرأة نساء خبز طابونة

قصص نساء وجدن أنفسهن بلا موارد رزق بسبب أزمة الحبوب التي تعيشها تونس (صورة أرشيفية/ فتحي بلعيد/ أ.ف.ب)

 

طيلة ثلاثة فصول تقضي الخالة رشيدة معظم أوقات يومها منذ ظهور الخيط الأبيض حتى اقتراب المغيب في العمل بالحقول والضيعات في زراعة الخضروات وجمعها وجني الزيتون وقلع الأعشاب الطفيلية وغيرها من الأعمال الشاقة. الخالة رشيدة كالشمس لا تخلف موعدها فمنذ ساعات الفجر الأولى تتجه نحو أحد حقول محافظة منوبة لتنطلق في استصلاح الأرض وغرس الفسائل وري الزراعات ورش الأسمدة وغيرها من الأنشطة التي تبذل فيها جهدًا كبيرًا حتى تتسلل قطرات عرق حارقة على جبينها الذي بدأت تزينه التجاعيد. تجاعيد ليست لها أي علاقة بسنها الذي بالكاد تجاوز الخمسين بل إنها تختزل تعب السنين وتروي رحلتها بين الحقول تحت أشعة الشمس اللاذعة وقساوة برد الشتاء.     

تقول الخالة رشيدة إنها منذ إصابتها بمرض ضغط الدم لم تعد قادرة على العمل في الحقول خلال فصل الصيف خاصة مع موجات الحر غير المسبوقة التي تشهدها تونس في السنوات الأخيرة، فخيّرت الالتزام بنصائح طبيبها واتقاء حر الشمس ولهيبها بملازمة بيتها خلال فترة القيظ الشديد، لكن مع التزاماتها المادية تجاه عائلتها خيرت منذ حوالي 6 سنوات أن تعمل خلال الصائفة في مجال تحضير "العولة" للزبائن وهي المؤونة التي دأب التونسيون على إعدادها وتخزينها لاستهلاكها على مدار السنة. 

تعمل رشيدة، وهي خمسينية، في إعداد عولة الكسكسي لزبائنها بمقابل مادي إلا أنها وجدت نفسها بلا عمل في ظلّ فقدان "الدقيق" بسبب أزمة الحبوب في تونس 

تضيف الخالة، في حديثها لـ"الترا تونس" أن مهنتها الموسمية تغنيها عن تعب التنقل للحقول والمكوث مع عائلتها طيلة النهار وتتيح لها المجال للظفر بمساعدة ابنتها الكبرى في تعريض حبات "الكسكسي" لأشعة الشمس لتجفيفها. كما لفتت إلى أن تحضير "العولة" يدر عليها نصيبًا وافرًا من المال خاصة وأن ربات البيوت انشغلن في العمل والحال أن "عولة الكسكسي" تتطلب تفرغًا ووقتًا طويلًا لإعدادها وتجفيفها وتخزينها.

 

 

وتضيف المتحدثة أن "عولة الكسكسي" مرتبطة بمواسم الأفراح كالأعراس وحفلات الخطوبة والختان ونجاحات البكالوريا، بالتالي كانت تتلقى من الزبائن كمًّا هائلًا من الطلبات خاصة في أواخر شهر ماي/أيار وبداية شهر جوان/يونيو فيقدم لها الزبون ثمن الدقيق لتقتنيه بنفسها وتتثبت من جودته، أما بالنسبة لنصيبها فإنها تحصل على 50 دينارًا مقابل تحويل كل 50 كغ من الدقيق إلى حبات "كسكسي". 

بكل أسف وحيرة تؤكد الخالة رشيدة أنها لم تقبل هذا الموسم إلا طلبية واحدة وذلك بسبب فقدان مادة الدقيق من الدكاكين المخصصة لبيع المواد الغذائية ومن المساحات الكبرى على حدٍّ سواء. كما أشارت إلى أن مورد رزقها بات مهددًا وفرضية بقائها دون عمل هذه الصائفة أصبحت شبه محتومة في ظل تواصل أزمة فقدان هذه المادة وعدم وجود حلول تلوح في الأفق. 

 

صورة
تعمل رشيدة في مجال تحضير "عولة الكسكسي" للزبائن (هاجر العبيدي/ الترا تونس)

 

  • معضلة ندرة الدقيق تطال الجميع

في غياب مادة الدقيق وندرتها بالأسواق، سلطت الأضواء على الإشكاليات التي تواجهها المخابز وتنامت المخاوف من إمكانية عدم تأمين الكميات الكافية من هذه المادة التي لا تغيب عن الأطباق الرئيسية التونسية. 

كما كرست كل الجهود لإيجاد حلول ولو وقتية لأصحاب المخابز الذين ما انفكوا يعرفون بأزمتهم ويطالبون بإصلاحات ضرورية في قطاع المخابز ليتمكنوا من الاستمرار في نشاطهم وتأمين الخبز للمواطنين، لكن في المقابل لا تحظى صاحبات المشاريع الصغرى واللاتي تعتبر مادة الدقيق أساسية في ديمومة مشاريعهن بنفس هذا الاهتمام حتى أن جلهن فقدن موارد رزقهن وألقين من جديد في براثن البطالة وتراكمت عليهن الديون التي عجزن عن تسديدها.

حذامي (أربعينية) لـ"الترا تونس": اقترضت مبلغًا ماليًا من إحدى مؤسسة التمويل من أجل فتح محلّ لبيع خبز "الطابونة" لكنني اضطررت لغلقه في ظرف قصير بسبب عدة عقبات في علاقة بالأداءات وسداد معاليم الفواتير وأهمها فقدان الدقيق

حذامي، أربعينية وأم لتوأمين، انفصلت عن زوجها منذ سنة وتعيش على نفقة لا تتجاوز الـ 600 دينار توزعها كل شهر بين استئجار الشقة ومصاريف الدراسة، فلا يبقى منها إلا ملاليم قليلة لا تجابه غلاء المعيشة الذي تشهده البلاد، فقررت بمشورة صديقتها اقتراض مبلغ ألفيْ دينار من إحدى مؤسسات التمويل لتنطلق بذلك في تسويغ محل صغير واقتناء المعدات اللازمة لمحل بيع "الطابونة" وهو أحد أنواع الخبز التقليدي في تونس.

تقول حذامي، في حديثها لـ"الترا تونس"، إنها واجهت عقبات كثيرة منذ انطلاقها في العمل أغلبها مادي في علاقة بالأداءات وسداد معاليم الفواتير وأهمها فقدان المادة الأساسية في عملها وهي الدقيق، فتضطر في كل مرة للرضوخ للمضاربة بالأسعار عند الأزمات واقتناء الدقيق بسعر يتجاوز ضعف سعره الأصلي. كما تجد نفسها مجبرة على اقتناء مواد غذائية أخرى هي في غنى عنها مقابل توفير "الدقيق النادر" وهو أسلوب دأب على انتهاجه تجار الأزمات الذين يستغلون حاجة المواطن للمواد المفقودة ليفرضوا عليه سياسة البيع المشروط باقتناء منتجات أخرى.

 

صورة
خبز "الطابونة" أحد أنواع الخبز التقليدي في تونس (صورة توضيحية/ فتحي بلعيد/ أ.ف.ب)

 

تؤكد حذامي أنها حاولت جاهدة المضي في مشروعها الذي كان بالنسبة لها الحل الوحيد لإعالة ابنتيها لكن فقدان الدقيق أثر على نسق عملها وأصبحت كمية الخبز التي تنتجها يوميًا قليلة ومردودها ضئيل جدًا مقارنة بحجم نفقات المشروع التي سبق ذكرها، فعجزت عن سداد القرض الذي تحصلت عليه وقررت بالتالي إغلاق المحل كي لا تتكبد المزيد من الخسائر. 

في ختام حديثها لـ"الترا تونس"، انتقدت حذامي غياب أي مبادرات جدية لمساعدة النساء الراغبات في بعث مشاريع صغرى تقيهم من جحيم البطالة واللاتي واجهن صعوبات في مواصلة عملهن، مؤكدة أنها قبل إغلاق محلها طرقت العديد من الأبواب لتفادي سيناريو الإفلاس لكنها لم تظفر بأي مساعدة من أي طرف. 

 

  • "النساء الحلقة الأضعف"

توكد رئيسة الاتحاد الوطني للمرأة التونسية راضية الجربي أن العديد من النسوة العاملات في قطاع الصناعات التقليدية وتحويل المنتجات الغذائية تضررن بسبب فقدان عدد من المواد الأولية، لافتة إلى أن محافظة المهدية على سبيل المثال انقطع فيها نشاط إعداد "خبز الطابونة" واندثر وبالتالي حرمت يد عاملة نسائية كبيرة من الاسترزاق، فعلاوة على عملهن في مجال هش ضُرب قوتهن اليومي ومورد رزقهن بسبب فقدان مادة الدقيق.

رئيسة اتحاد المرأة لـ"الترا تونس": العديد من النسوة العاملات في قطاع الصناعات التقليدية وتحويل المنتجات الغذائية تضررن بسبب فقدان عدد من المواد الأولية ما زاد من وضعهن هشاشة 

ولفتت الجربي، في حديثها لـ"الترا تونس"، إلى وجود العديد من البرامج والخطط والمقترحات والاستراتيجيات الموجهة للنساء تندرج في إطار السعي لدعم هذه الفئات الهشة ويتم الحديث عنها في الخطاب السياسي والندوات، لكن الثابت هو أنها غير قادرة على تحقيق النتائج المرجوة، فالنساء لم يشعرن باهتمامات الدولة بواقعهن المعيشي، لافتة إلى أن الإشكال يتمثل في عدم شعور المرأة التونسية بوجود جهات تهتم بها خاصة في التمكين الاقتصادي لأن تداعيات الوضع الدولي وما بعد الثورة على تونس جعل وضع النساء يزداد هشاشة بازدياد الصعاب وطول الفترة الانتقالية فازدادت الهوة وتعمقت بين طلباتهن وطموحاتهن وواقعهن المعيشي. 

وأفادت المتحدثة بأن الاتحاد على بينة بالصعوبات التي تعيشها المرأة لكنه لا يملك حلولًا سحرية لأن النساء اللاتي تضررن من فقدان المواد الأولية يفترض إيجاد حلول لهن مع اتحاد الفلاحين، لكن العديد من شبكات الترويج للمواد المدعمة وغيرها تجاوزته في ظل الصعوبات التي يعيشها وانتشار ظاهرة الاحتكار في هذه المسالك.

 

 

وأضافت، في هذا السياق، أن "الإشكال مرتبط أيضًا بقطاع استيراد وتوزيع هذه المواد المفقودة"، مشيرة إلى أن أرباب العمل المختصين في مجال التصدير والترويج والشحن مشمولون بالإشكال، لكن النساء هن الحلقة المتضررة الأضعف"، مستدركة أن "اتحاد المرأة بصدد معالجة هذه الظواهر، لكن المعالجة الحقيقية في مثل هذه المسائل خارجة عن نطاقه لأن البعض منها مرتبط بجهات أخرى وبوضع عام". 

رئيسة اتحاد المرأة لـ"الترا تونس": في ظل فقدان القمح نشجع على عودة برنامج الفلاحة والحدائق الأسرية التي عاد انتشارها في الجنوب التونسي ومحافظات الشمال كما نشجع على بعث المجامع الفلاحية

وأشارت راضية الجربي إلى أن الاتحاد في ظل فقدان القمح يشجع على عودة برنامج الفلاحة والحدائق الأسرية التي عاد انتشارها في الجنوب التونسي ومحافظات الشمال، كما يشجع على بعث المجامع الفلاحية من منطلق إيمانه بأن تضامن النساء فيما بينهن كفلاحات يقلل من حدة التداعيات الاقتصادية ومن تدني وضعهن الاقتصادي والاجتماعي.

كما يشتغل الاتحاد أيضًا، وفق الجربي، على الفلاحة البديلة والبيولوجية وأنجز بشكل استباقي بنك البذور الراجعة لكل جهة حتى يتمكن التونسي من زراعة القمح والشعير والخضروات والبقول بمفرده، وهذا حل كان بالإمكان تعميمه لكن دور الاتحاد يقتصر على الاقتراح والمساعدة وتحسيس السلط بخطورة واقع النساء ودعمهن وإيصال صوتهن وتذليل الصعوبات أمام أولئك اللواتي يشتغلن في المجال الفلاحي وفي القطاعات الهشة التي تضررت من فقدان المواد الأولية.

جدير بالذكر أن تونس تعيش أزمة حادة في منظومة الحبوب تعزى من جهة لتداعيات الحرب الروسية الأوكرانية، ومن جهة أخرى إلى انحباس الأمطار لمواسم متتالية مما تسبب في تراجع مساحات الحبوب المزروعة في تونس، فضلًا عن أن تونس تقوم بتوريد أكثر من نصف حاجياتها من الحبوب في السنوات الأخيرة وتعاني صعوبات مؤخرًا في عمليات التوريد بالنظر لتأزم وضعها المالي وتراجع مخزونها من العملة الصعبة.