كأس العالم وهذا "العنف"

كأس العالم وهذا "العنف"

11 ديسمبر 2022

عنف وتخريب في بروكسل بعد مباراة المغرب وبلجيكا في مونديال قطر (27/11/2022/الأناضول)

+ الخط -

سيخرج هذا المقال بعد انتهاء لقاء منتخب المغرب مع منتخب البرتغال في كأس العالم. ولكن هذا لا يؤثر، لأن عجالتي هذه لن تتوقف عند النتيجة، وإنما أحاول أن أفهم (ولا أتفهّم) ماذا يجري دائماً بعد انتهاء كل مباريات الفرق العربية التي لها جاليات كبرى في أوروبا من أحداث مؤسفة في حالي الربح والخسارة، لا فرق، ففيهما، تخرج، معبرة عن فرحتها، أو عن خيبتها، مجموعات كبرى من أبناء الجيلين الثاني والثالث اللذين قدم أهلوهما أو استقدموا من شمال أفريقيا للعمل والمساهمة في النهضة الاقتصادية لبلادٍ عانت ما عانته إبّان الحرب العالمية الثانية. تبدو الأمور طبيعية ولا ضير فيها، فالتعبير عن الفرح عند الربح أو الحزن عند الخسارة تعبيران إنسانيان يندرجان ضمن حقوق البشر من أي عرق ومن أي دين، خصوصاً في الدول الديمقراطية.

في السنوات الأخيرة، انتشرت ظاهرة عنفية محدودة، لكنها مؤثرة تتمثّل بخروج بعض الشباب من هذه المجموعات، والبدء بعمليات تخريبية من إحراق أثاث عام، إلى إحراق سيارات، وصولاً إلى استبدال علم الدولة المرفوع على الأبنية الحكومية بعلم بلد آبائهم وأجدادهم الذي يفرحون له أو يحزنون عليه.

وُضِع الجزء الأكبر من المهاجرين في العقود الماضية في ضواحي المدن الصناعية بعيداً عن أية وسيلة فعالة للانتماء إلى المركز

تصدّى لتحليل هذه الأحداث المؤسفة طرفان على نقيض مستدام: الأول بينهما، هم العنصريون المتفاقمة ظاهرتهم في المجتمعات الغربية مع فشل السياسات العامة وتراجع الوضع الاقتصادي. اعتبروا أن ما يحصل من جرائم دليلٌ قاطع على أن لا أمل في الانفتاح على الآخر الذي لا يبحث إلا عن إزاحة أبناء البلد "الأصليين" والجلوس مكانهم. وزد على ذلك، من المحبّذ أن تتوّج هذه التعليقات العنصرية بشيء من الرُّهاب من الدين الإسلامي، واعتبار أنه غير قابل للتمشي مع حضارة الغرب المتقدّمة وديمقراطيته المزدهرة. ويتكرّر الاستماع إلى الأسطوانة المشروخة منذ صناعتها، التي تُشدّد على خطورة الهجرة والمهاجرين على المجتمع الغربي. وتجاري هذا الموقف نسبياً عبارات تصدر عن "عرب الخدمة"، أو كارهي الذات من العرب ومن في حكمهم، الذين سيقفزون على الفرصة لإثبات نظريّتهم التي تتلخّص بعبارة: "نحن الجيدون وهم المسيؤون، فأغلقوا الأبواب". كما يتأفف، في النهاية، بعض المهاجرين الجدد ليميّزوا أنفسهم عن هذه "الحثالة"، من دون أية معرفة ببنية المشكلات التي تكتنف الملف في البلد الجديد.

الطرف الثاني، هو الذي سينفي الوقائع جملة وتفصيلاً، ويحوّلها إلى مجرد اعتداءات عنصرية قامت بها قوات الشرطة وبعض المجموعات المتطرفة على مغاربة أو جزائريين أو تونسيين يحتفلون ببراءة بفوز فريقهم أو هم يتجمّعون لمواساة أنفسهم بخسارته. وبالتالي، سببت الاعتداءات ردود فعل غير محبّذة.

كلا الطرفين، على اختلاف المقاصد، يبتعدان باستنتاجاتهم عن الواقع. فبالفعل هناك أحداث تخريب وإحراق مؤسفة تجري على هامش فرح الجماهير الشمال أفريقية أو حزنها في شوارع المدن الأوروبية، ولا علاقة لها باختلاف الثقافات ولا بسياسات إحلال مُتخيّلة. فهل لنا أن نبدأ، بتواضع شديد، في محاولة تلمّس الأسباب الحقيقة أو جزء منها على الأقل؟ أم أن الخوض في هذا الملف الساخن يجلب الانتقاد مسبق الصنع الحاضر بشدّة في جميع الثقافات مع انتشار وسائل التواصل؟

أحداث مؤسفة بعد انتهاء مباريات الفرق العربية التي لها جاليات كبرى في أوروبا

لقد وُضِع الجزء الأكبر من المهاجرين في العقود الماضية في ضواحي المدن الصناعية بعيداً عن أية وسيلة فعّالة للانتماء إلى المركز. ونتيجة انتشار هذه الضواحي كالفطر حول المدن الكبرى والغنية، جرى الفصل بشكل حضري بين فئاتٍ حصلت كل منها على تعريفاتها الخاصة اجتماعياً وثقافياً، وحتى دينياً. وكثيرون من المهاجرين الآباء والأجداد لا يتقنون لغة البلد المنتقلين إليه. فلم يكن مطلوباً منهم أن يندمجوا، لأن لا وقت لرأس المال أن ينفقه بالاهتمام بظروفهم وحيواتهم خارج المصنع أو الحقل الذي يطلب منهم أن يجهدوا فيه من دون تعليقات تذكر وبأي لغة كانت. ومع السماح لهم باستقدام زوجاتهم، نشأت عائلة جديدة بعيدة أو مبعدة عن المركز فيزيائياً واجتماعياً.

مع الجيل الجديد، برزت مسألة أو مأساة الانتماء، فهم ليسوا بني أوطان أهاليهم التي لربما زاروها فقط في الإجازات. وهم ليسوا أبناء بلد السكن لأنهم مُبعدون عن ثقافته وعن مدارسه الجيدة وعن مراكزه الحضرية الجميلة. وبالتالي، يتفاقم لديهم الانتماء إلى الحي أو حتى إلى البناء الذي يقطنونه محشورين في شقق ضيقة مع أسرهم. القليل منهم من يستطيع الانعتاق من هذا القيد البنيوي، ليبرز كروياً مثلاً أو دراسياً، ليصبح من النوادر التي تجترّها وسائل الإعلام لإبراز نجاح النظام الاندماجي العام، وهو فاشل بامتياز. ومع تفاقم الأزمات الاقتصادية، وكما تؤكل الثمرة ويُرمي قشرها، ستتفاقم معدلات البطالة والتسرّب المدرسي والعنف والمخدّرات في بعض الأوساط بانفصال تام عن منهج الأبوين التربوي الذي استقال أو أُقيل نتيجة الانهماك بتحصيل لقمة العيش. وتأتي العنصريات التي تحظى بسياسات عامة تؤيدها ضمناً وتعارضها شكلاً، لتفاقم من شعور الجيل الجديد بالإقصاء الذي يولّد نوعاً من الضغينة تجاه بعض المحيط. وبالتالي، يصبح كل ما يرمز إلى الوضع القائم محل اعتداء متخيّل أو متحقق.

تأجيج هذا الاستقطاب أو نفي وقوعه وجهان لعملة واحدة اسمها الهروب من المسؤولية.