28-فبراير-2023
.

رغم دخول الصين وتركيا، إلّا أن التأثير والفنوذ الروسي في آسيا الوسطى لم يتراجع

تعد منطقة آسيا الوسطى، على قلة الاهتمام الإعلامي الدولي بها، منطقة تنافس بين القوى العظمى في العالم، وذلك بسبب موقعها الجغرافيّ في المستوى الأول، الذي وضعها في قلب القارة الآسيوية وعلى مقربة من روسيا والصين، بالإضافة إلى مكانتها التاريخية في المستوى الثاني، إذ تعتبر المنطقة امتدادًا ثقافيًا وإثنيًا لتركيا، وكذا أجزاء كانت لوقت قريب ضمن الاتحاد السوفيتي.

تمتلك روسيا القدرة على تهديد بلدان آسيا الوسطى من خلال وجود الأقليات الروسية داخلها والقيام بنفس السيناريو الأوكراني

هذا الموقع الجغرافي والتاريخي، جعل المنطقة موضوعًا لرهانات جيوسياسية صاعدة، على غرار سعي بوتين لاستعادة نفوذه في دول "الفضاء الروسي القديم"، إضافةً إلى مبادرة "طريق الحرير الجديدة" التي ترغب من خلالها الصين بإطباق قبضتها على سلاسل التوريد العالمية. وكذا عوامل أخرى عديدة كانت فاعلةً في أن تجعل هذه المنطقة محط أنظار القوى السياسية الكبرى.

في مقابل هذا، تشهد دول آسيا الوسطى تغيرات سياسية كبيرة منذ العام الماضي، أحد أوجهها الاحتجاجات العنيفة في كازاخستان، كما المناوشات الحدودية الأخيرة بين قرغيزستان وطاجيكستان، ناهيك عن استمرار القتال بين أذربيجان وأرمينيا، والتدخل التركي إلى جانب الجيش الأذري.

في سبيل فهم موقع المنطقة في الصراعات الراهنة، يُجري "ألترا صوت" مقابلة مع الباحث في السياسات الدولية والإعلامية والمختص في شؤون آسيا الوسطى، علي سليمان.


  • شهدت كازاخستان احتجاجات عارمة ضد حكومة جومرات توكاييف، العام الماضي، وهو ما دفع روسيا لإنقاذه بنشر قوات حفظ السلام في البلاد. هل ارتبط التدخل الروسي حينها بما كان يتم تحضيره على الحدود الأوكرانية؟

أظن أن هذا الموضوع له علاقة أكثر بصراع كازاخستاني-كازاخستاني، إذ أن تلك الأحداث كانت عبارة عن صراع بين أطراف الحكم في البلاد، ومحاولة الرئيس الجديد قاسم جومارت توكاييف عزل الرئيس السابق نور سلطان نزارباييف من السلطة، لأن الرئيس السابق نور سلطان، مع أنه تخلى عن الرئاسة، كان لا يزال لديه نفوذ قوي بالبلاد، وكان العديد من رجال السلطة لا يزالون يدينون له بالولاء، ما مكنه من القدرة على إحداث تغيير كبير في سياسة كازاخستان حتى وهو خارج الحكم.

وبالتالي، كان هناك نوع من الصراع بين هذه القوى السياسية، مما جعل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ينتهز الفرصة لتوطيد علاقته بالرئيس الجديد، محاولًا فرض نوع من أنواع التأثير العسكري بالمنطقة من جديد، وهو ما تجلى في إرساله قوات حفظ السلام إلى كازاخستان في كانون الثاني/ يناير 2022. وانتهت القصة بأن الرئيس الحالي توكاييف ظل على كرسي السلطة، بينما تم تحجيم النفوذ السياسي للرئيس السابق.

  • في سياق الحديث عن الصراع الكازاخستاني- الكازاخستاني، أي ورقة تراهن عليها تركيا وروسيا في علاقتهما مع كازاخستان؟

أعتقد أن الرهان التركي سيكون على الرئيس الجديد توكاييف، لأن لديه سياسة خارجية منفتحة أكثر من الرئيس السابق، كما وأنه مُتقبل أكثر لسياسات بعيدة عن روسيا، ومُتقبل للسياسات الغربية ولفكرة تصدير منتجات بلاده البترولية بعيدًا عن السوق الروسي. وفي نفس الوقت، روسيا أدركت أنّ قدراتها محدودة نوعاً ما حالياً في التأثير على كازاخستان، لهذا السبب هم يفضلون كسب الورقة نفسها (أي الرئيس توكاييف) على أنّ يخسروها.

هذا الموضوع سيتكرر كثيرًا في محادثتنا اليوم، لأنه ليس من الضروري أن تكون مصالح روسيا وتركيا في منطقة وسط آسيا متعارضة، وسأعرض عليكم لاحقًا معطيات سياسية واقتصادية تبين أنه في الكثير من الأحيان يعمل التأثير الروسي والتركي هناك بشكلٍ متكامل وإيجابي. 

getty

  • في الفترة الماضية، نشبت مناوشات على الحدود القرغيزية الطاجيكية. هل تعتقد أنّ ضعف تأثير روسيا في المنطقة وانشغالها في غزو أوكرانيا ساهم في نشوب هذه المناوشات؟ وما هو الدور الذي يمكن أن تلعبه روسيا في هذا الشأن؟ 

بدايةً، أود أن أوضح بأنني من أصحاب رأي مختلف بخصوص هذا الموضوع، بحيث أنه وبغض النظر عن المقالات والتقارير التي تتحدث عن تدهور التأثير الروسي في آسيا الوسطى، هناك معطيات كثيرة تُظهر العكس. 

ثانيًا، الصراع القرغيزي الطاجيكي هو صراع قديم جدًا، وله علاقة بترسيم الحدود وبنقص موارد المياه هناك. وفي ظل هذا الصراع، اندلعت مناوشات قبل سنتين من حرب أوكرانيا، وفي عام 2010 كذلك كانت هناك مشاكل مع أوزبكستان. لهذا أرجح أنه ليست هناك علاقة بين الموضوعين، لكن الشيء المثير للاهتمام، هو أنه بعد الحرب في أوكرانيا، قررت قرغيزستان شراء طائرات مسيرة "بيرقدار" من تركيا. بالإضافة إلى هذا، تعد طاجيكستان أكثر الدول المقربة عسكريًا من روسيا في المنطقة، وتحوي قاعدة عسكرية روسية فعالة. وبالمناسبة، قرغيزستان كذلك تحوي قاعدة روسية، لكنها لوجستية فحسب. 

  • عودةً إلى كازاخستان، مع تصاعد الأزمة السياسية في العام الماضي، راج الحديث عن تفعيل موسكو لورقة الأقلية الروسية في شمال البلاد، وهذا الوضع ينطبق على عدد من دول الفضاء السوفياتي سابقًا. هل أصبحت الأقليات الروسية ورقة ضغط يلعبها بوتين كلما سنحت الفرصة؟ 

هذا سؤال مهم جدًا، والتعامل معه معقد بشكلٍ كبير، فبالإضافة إلى الأقليات الروسي، لدينا أيضًا الجالية الروسية التي صارت كبيرة اليوم في آسيا الوسطى نتيجة التعبئة العسكرية (التي أعلنها بوتين شهر أيلول/ سبتمبر الماضي) والتي أدت إلى فرار العديدين خارج البلاد، يمكن ألّا يكونوا بالضرورة معارضين للرئيس، لكنهم لا يريدون القتال في هذه الحرب. وبالتالي هناك جالية روسية كبيرة تشكلت جراء هذا، وأصبحت تؤثر على النسيج الاجتماعي في المنطقة.  

هذان الأمران (الأقليات والجالية الروسية) هما ورقة قوية جدًا في يدّ الحكومة الروسية، وتمكنها من التدخل والتأثير على السياسات الداخلية والخارجية في آسيا الوسطى. بحيث أن الأقليات الروسية هي أقليات فعالة في المجتمع بشكلٍ كبير، خصوصًا في مجالات الصناعة والتجارة والاستيراد والتصدير والتكنولوجيات الحديثة والهندسة، فالتأثير على هذه الأقليات يؤدي مباشرةً إلى التأثير على اقتصادات تلك الدول.

بالإضافة إلى هذا، هناك عدد كبير من المهاجرين من دول آسيا الوسطى الذين يعيشون ويعملون في روسيا، ويبعثون في كل شهر حوالات مالية إلى عائلاتهم. ومن المثير للاهتمام أنه في عام 2022، زاد حجم التحويلات المالية من روسيا إلى دول آسيا الوسطى الضعف تقريبًا. هذا لأن العلاقات التجارية بينهما بدأت في التحسن مع العقوبات الغربية على روسيا. هنا من الممكن أنّ أكون قد قفزت إلى موضوع آخر، لكن ما أود قوله بأن قوة ورقة الأقليات والمهاجرين الروس في آسيا الوسطى تعود إلى سببين؛ الأول هو كونها مرتبطة بالاقتصاد، والثانية قدرة روسيا من خلالها على تهديد تلك الدول بالقيام بنفس السيناريو الأوكراني.

getty

  • طور الرئيس التركي طيب رجب أردوغان، مؤخرًا، علاقاته مع دول آسيا الوسطى، وذلك في شقين؛ في الشق الثقافي من خلال التأكيد على المشترك اللغوي والعرقي بين الشعب التركي وتلك الشعوب، وفي الشق الاقتصادي قام بتطوير الشراكات التجارية. هل يمكن اعتبار هذا تحولًا في الاستراتيجية التركية إزاء آسيا الوسطى؟

دعنا نبدأ بالأرقام، فإذا نظرنا إلى حجم التبادلات التجارية بين تركيا ودول آسيا، نجد أنها قد عرفت طفرة خلال عام 2022، ليصل حجمها إلى نحو 12.33 مليار دولار. وفي كازاخستان تم توقيع 15 اتفاقية شراكة تجارية مع تركيا فقط في العام الماضي، وبذلك أصبحت أستانا الشريك الاقتصادي الأول لأنقرة في المنطقة. 

وبالتالي، الحديث عن تحول في الاستراتيجية التركية إزاء دول آسيا الوسطى صحيح، وأصبح لديها تأثير اقتصادي كبير في تلك المنطقة، وهو يعود لمجموعة من الأسباب، ومنها ما له علاقة بفكرة العالم التركي وتوسيع العالم التركي. 

في نفس الوقت، هذا لا يعني أن التأثير الروسي في تناقص، فإذا نظرنا للأرقام نرى بأن التجارة بين روسيا ودول آسيا الوسطى كانت في أفضل حالاتها خلال 2022، مقارنةً بالسنوات العشر الماضية، فما حدث في هذه الدول، هو أن علاقاتها التجارية مع أمريكا وأوروبا قلَّت بكثير، مقابل ذلك ازدهرت التجارة مع روسيا بكثير، وذلك لحاجة هذه الأخيرة لبدائل تجاريين لم تكن في حاجتها من قبل.

وهناك أيضًا مجموعة عوامل جديدة، منها ما يسمى بخط قطار الصين قرغيزستان أوزباكستان. وهذا الخط الذي يربط الدول الثلاثة، سيسمح للتجارة الداخلية بين دول آسيا الوسطى لكي تتطور بشكلٍ سريع.

بالإضافة إلى هذا، وقبل أن أختم هذه النقطة، بلغت صادرات كازاخستان لوحدها 65.8 مليار دولار، فقط في الفترة ما بين كانون الأول/ يناير وأيلول/ سبتمبر 2022، أي بزيادة قدرها 47.5% عما كانت عليه في نفس الفترة من عام 2021، وهذا يعود لارتفاع أسعار البترول. في المقابل، أظهرت الصادرات من كازاخستان إلى روسيا نموًا بنسبة 16%، لتصل إلى 5.9 مليار دولار خلال الأشهر التسعة الأولى من عام 2022، وهو ما يمثل رقمًا هائلًا، وينطبق أيضًا على أوزبكستان وطاجيكستان وباقي دول المنطقة. بالتالي فإن النظرية الغربية التي تقول بأن التأثير الروسي في آسيا الوسطى يعرف تدهورًا، هي نظرية خاطئة، فالتأثير الروسي في تصاعد، لكن في نفس الوقت يسمح لتأثير دول أخرى مثل تركيا.

getty

  • بالحديث عن مبادرة "الحزام والطريق" الصينية، ما هي انعكاسات هذه المبادرة على التوازنات الاقتصادية في آسيا الوسطى؟

 هذه المشاريع تحمل معها مجموعة من التحولات، منها أن روسيا ظلَّت الشريك التجاري الأول لكازاخستان لمدة 27 أو 28 عامًا، أما اليوم، فالشريك التجاري الأول لكازاخستان هو الصين. وهذا يشمل كل دول آسيا الوسطى، أصبحت الصين الشريك التجاري الأول لها.

 لكن مع ذلك، فالبنى التحتية التي تنشئها الصين في المنطقة، خاصة الطرق العامة التي توصل كازاخستان مع قرغيزستان، وشبكة السكك الحديد التي تربط الصين وقرغيزستان وأوزباكستان، هذه كلها مشاريع عملاقة ستسمح بتطوير التجارة البينية لهذه الدول، وأيضًا ستربط علاقات تجارية مع دول أخرى كتركيا وروسيا. وبالتالي، بالرغم من تراجع روسيا في تصنيف الشركاء التجاريين لآسيا الوسطى، إلا أنها تستفيد (بشكل أو بآخر) من المشاريع التي أنشأتها الصين في تلك الدول.

  • خلال الاجتماع الأخير لمجموعة السبعة في ألمانيا، تم الحديث عن خطة غربية مضادة لـ"مبادرة الحزام والطريق" الصينية. هل ستصعد هذه الخطة من التنافس حول منطقة آسيا الوسطى؟

بالنسبة للخطة التي طرحتها مجموعة السبع، على حد علمي التركيز الأساسي لها هو على أفريقيا وأمريكا الجنوبية، دون أن تتضمن أي إشارة إلى آسيا الوسطى. لكن بالحديث عن الغرب، يحصل مؤخرًا شيء مثير للاهتمام، هو أنه أصبحت تنشر مقالات كثيرة في أوروبا وأمريكا حول العلاقات مع كازاخستان، لأنهم يؤمنون بأن هنالك فرصة نادرة في الوقت الحالي لكي يكسبوا ذلك البلد تجاريًا بشكلٍ غير مسبوق، هذا إذا استثمروا بشكل كبير في علاقاتهم معها، وعملوا على توقيع اتفاقيات ثنائية. وهنا أعتقد أن أكثر لاعب من الممكن أن تخسره روسيا لصالح الغرب هو كازاخستان، وأقل لاعب هو طاجيكستان، نظرًا لعلاقاتها العسكرية والأمنية مع موسكو.

على العموم، بالرغم من وجود تقارير غربية كثيرة تتعلق بأن دول آسيا الوسطى تبتعد عن روسيا وتبحث في إنشاء علاقات جديدة مع الغرب، أعتقد أن ذلك فقط فقاعة إعلامية ومجرد خطاب، إذ تتفادى هذه الدول الوقوع في العقوبات، بالتالي تظهر خطابًا مغايرًا للخطاب الروسي. لكن عندما نعود للبيانات الاقتصادية والأمنية، وإلى كل اتفاقيات الشراكة التي وقعتها، وكل تقارير المنظمات الأمنية الروسية أو الصينية بهذا الخصوص، نجد أن العلاقات سارية بشكل طبيعي. 

وعندما ننظر إلى شعور شعوب بلدان آسيا الوسطى، فهم بطبيعة الحال ضد الحرب في أوكرانيا، لكنهم في نفس الوقت متشككين بقدرة الغرب على الوقوف بجانبهم. فإذا ما استعملت روسيا حجة الأقليات الروسية للتدخل في كازاخستان، فالغرب لن يدعمها بنفس المقدار الذي يدعم فيه أوكرانيا. هذا لأسباب عدة، منها ما هو لوجستي، وأيضًا لأنهم لا يعتبرونها مهمة من الناحية الجيوسياسية. وبالتالي في نظري فإن ابتعاد آسيا الوسطى عن روسيا هو خطاب وليس واقعًا سياسيًا واقتصاديًا. 

  • في ذات السياق، عندما وقفت تركيا بجانب أذربيجان في حربها مع أرمينيا. هل بعثت أنقرة بذلك رسالةً إلى دول آسيا الوسطى مفادها أنها قادرة على الدفاع عنهم وحمايتهم؟  وبالتالي هل تستطيع تركيا تعويض الغرب في المعادلة التي طرحتها سابقًا؟ 

على حد علمي، ليس هناك منظمات أمنية تجمع تركيا بآسيا الوسطى. هناك منظمة "العالم التركي"، والتي تضم كازاخستان وأوزباكستان وقرغيزستان وتركيا وأذربيجان، إضافة إلى عضوين مراقبين هما تركمانستان والمجر، لكنها ليست منظمة أمنية.

بالتالي، فالعلاقات الأمنية مع تركيا هي علاقات محدودة، مع أن وقوف تركيا إلى جانب أذربيجان كان أمرًا مثيرًا للاهتمام، لكن هناك أسباب جغرافية ولوجستية تمنع أنقرة من أن تقوم بنفس الشيء إزاء دول آسيا الوسطى الأخرى في حال حدوث صراع، ما عدا تأمين تكنولوجيا عسكرية حديثة، مثل مُسيّرات بيرقدار لقرغيزستان، وهذا تأثير محدود جدًا.

عندما ننظر إلى شعور شعوب بلدان آسيا الوسطى، فهم بطبيعة الحال ضد الحرب في أوكرانيا، لكنهم في نفس الوقت متشككين بقدرة الغرب على الوقوف بجانبهم

بالمقابل، تقوم المؤسسات الأمنية الروسية والصينية، بشكلٍ دوري، بإطلاق تدريبات لقوات بلدان آسيا الوسطى، تشمل عمليات مكافحة  الهجمات الإرهابية أو التصدي لمحاولات الانقلاب، بينما لا تجري تركيا مثل هذه التدريبات مع تلك الدول. وبالتالي، يتضح أن التأثير الأمني لتركيا يتسع بشكل متسارع، لكنه ليس بتلك القوة والحجم الذي يجعل آسيا الوسطى تقلب اعتمادها الأمني من روسيا والصين إلى تركيا. ففي هذا الإطار، اللجوء لتركيا سيكون بالتحديد من أجل التزود بتكنولوجيا دفاعية محددة، وهو ما يبدو لي الجواب الأكثر منطقية.