28-فبراير-2023
إيلا ييفتوشينكو

الشاعرة إيلا ييفتوشينكو

أصبحت فصول تدريس التاريخ والأدب في أوكرانيا جبهة حرب أخرى بين الحكم العسكري الروسي والمدرسين المحليين. ذلك أنه فور احتلالهم مناطق كخيرسون وزاباروجيا، عمدت القوات الروسية إلى مصادرة كل كتب التاريخ الأوكرانية من المدارس، وهو ما واجهه المدرسون بتنظيم فصول تعليمية في الخفاء إلى حين حلول فرج الانعتاق.

ولعل هذا دليل قاطع على أن الصراع الدائر، والذي تحول منذ عام إلى غزو دموي، يطال حلبة الثقافة أيضًا، وربما بشكل أقدم تاريخيًا من نظيره السياسي، حيث التنافس فيه حول السرديات الكبرى لأمة تقاوم لإثبات هويتها الخاصة، وجلادها الذي يعتزم بجبر الحديد والنار تجريدها من كل خصوصية. فيما طليعة المحاربين فيه، هم الأدباء أوكرانيا وفنانوها، بأداة الرواية أو الشعر أو التشكيل، يقفون كخط مقاومة أول على هذه الجبهة.

وبالتالي، كيف يدير الأدباء الأوكران هذا الصراع؟ وما هي الآليات التي يعتمدونها للدفاع والتعريف بهويتهم الثقافية الوطنية الخاصة؟ كيف تؤثر الحرب على الإبداع الأدبي الأوكراني؟ وماذا يعنيه الأدب في زمن دوي الرصاص والموت المسير عن بعد؟

كل هذه أسئلة، وأكثر، تحضر معنا للإجابة عنها الشاعرة الأوكرانية إيلا ييفتوشينكو في الحوار الآتي. وإيلا، هي شاعرة ومترجمة وموسيقية أوكرانية، من مواليد 1996. لها عدة أعمال شعرية، من بينها مجموعة "Lichtung" (المرج) الصادرة عام 2016. ومنذ اندلاع الغزو الروسي لأوكرانيا، تقود ييفتوشنكو حركية ديبلوماسية أدبية للتعريف بقضية بلادها في عموم أوروبا، وفي هذا الصدد جمعت نصوصًا لـ 24 شاعر أوكراني في أنطولوجيا وترجمتها إلى اللغة الفرنسية، لتصدر عن منشورات برينو دوسي في باريس.


  • هلّا وصفت لنا شعورك لحظة انطلاق الغزو الروسي؟ وكيف أثَّر القلق الذي صاحب تلك اللحظة عليك كشاعرة؟

قبل بداية الغزو، أتذكر أن شبح القلق كان يتملَّك الجميع. والكثير من الأشخاص، وأنا من بينهم، كنا نرفض تقبل ذلك الواقع، لكنه كان هنا يطرق أبوابنا. وبالفعل، كنت قد كتبت قصيدة قبل اندلاع الحرب بنحو شهر، وكنت في تلك الأيام أيضًا أعيد قراءة "هاملت"، هكذا أتت القصيدة مليئة بشكوك هاملت الشهيرة: هل ستحدث أم لا؟ أعلينا فعل شيء بخصوصها أم لا؟ أم علينا (زوجي وأنا) مغادرة البلاد في حال وقوع الغزو؟

إيلا ييفتوشينكو: قبل بداية الغزو، أتذكر أن شبح القلق كان يتملَّك الجميع. والكثير من الأشخاص، وأنا من بينهم، كنا نرفض تقبل ذلك الواقع، لكنه كان هنا يطرق أبوابنا

أظن أنه لو فرض علينا مواجهة الاحتلال الروسي بشكلٍ مباشر، لما ربما نجونا من الهلاك، فنحن في الأخير أهل ثقافة، شعراء، وطنيين. وهو ما حصل لكاتب من إزيوم (في إقليم خاركيف)، فلودومير فاكولينكو، الشهير بكونه صاحب كتب كثيرة للأطفال، والذي ألقت عليه القوات الروسية القبض وتم تعذيبه وقتله فيما بعد. بالتالي، فإن قلق ما قبل الحرب لم يكن شعورًا فقط، بل كان مسألة حياة أو موت. وبطبيعة الحال، كل ما يصحب من حالة انعدام اليقين بشأن اندلاع الحرب من عدمه، ما كان وضعًا كئيبًا جدًا.
مع ذلك، وبعد أن انطلق العدوان، أعتقد أن الصدمة خدّرتني، كنت وقتها غربَ البلاد، في مدينة لفيف. وهو ما خلّف أيضًا أحاسيس جميل: كنشوة أننا في أمان، وأن أوكرانيا لم تدمر كدولة في ثلاثة أيام (كما كان يظن البعض)، إضافة إلى الكثير من النكات (فالهزل يساعد على تفادي انهيار الأعصاب)، وذلك الشعور الغريب بأننا نعيش لحظات ربما ستكون على صفحة كتب التاريخ في المستقبل. وقبل عودة الحداد والقلق، كنت ممزَّقة بذلك الشعور، ولم أتذكر أنني شاعرة إلا بعد اليوم الخامس للغزو. وفي شهوره الثلاث الأولى، كتب أشعارًا أكثر من المعتاد، وساعدني ذلك حقًا.

getty

  • هل ألهمت مشاهد العنف الدموي تلك القصائد؟ وبشكل أعم كيف أثَّرت الحرب على شعرك؟

كلمة "ألهمت" في نظري إيجابية جدًا لتوضع بمحاذاتها كلمة "عنف"... لكن الكتابة هي فعل علاجي، تساعد على طرد تلك المشاهد خارج رأسك بعد إلقائها على الورق. لهذا كتبت قصيدة بعنوان "بوتشا"، مع أنني دائمًا ما أكتب عن تجاربي الشخصية لا عما أشاهده على شاشات الأخبار، وأعتقد أن الصدق يكمن في أن يكتب المرء ما يراه ويشعر به، لكن تلك القصيدة كانت استثناءً.

  • في نظرك، ما هي المسؤوليات التي يحملها الشاعر الأوكراني إزاء شعبه وبلاده في مثل هذه الأوقات؟

منذ الأيام الأولى للغزو الروسي، لعب الشعراء دورًا مهمًا كناطقين باسم الشعب وممثلين ديبلوماسيين له. لقد لاحظنا زيادة الاهتمام [العالمي] بالشعر الأوكراني، والأعمال الفنية الأوكرانية بشكلٍ عام، وهو ما توجب علينا استغلاله لننقل إلى العالم حقيقة العدوان الذي تتعرض له البلاد.

خلال الأشهر الأولى للحرب، ترجمت الكثير من الشعر الأوكراني إلى الإنجليزية والفرنسية، وأنجزنا أيضًا أنطولوجيا شعرية للناشر الفرنسي برونو دوسي. بالإضافة إلى هذا، قمت بجولة في كل من فرنسا وسويسرا والتشيك، من أجل قراءة الشعر والحديث مع الجمهور. بالرغم من أن ذلك كان أمرًا صعبًا جسديًا وعاطفيًا؛ أن تعيد سرد المآسي الحاصلة مرارًا وتكرارًا مع كل لقاء، أن تعيد شرح أسباب الحرب (والتي بطبيعة الحال لها جذور عميقة في الماضي)، وأن يعرب لي كل شخص أقابله عن مدى حبه لبوشكين ودوستويفسكي وأخماتوفا... كأنني في حاجة إلى سماع ذلك أو أنني الشخص المناسب لإخباره بذلك.

لكنني أحسست (ولا زلت أحس) بأن ذلك واجبي، وسأستغل كل فرصة تتاح لي لأشرح ما تتعرض له بلادي، ولو كان ذلك لشخص واحد فقط. فما يعرفه العالم عن أوكرانيا هو في أغلبه ما ترويه روسيا عنّا. وهو الحال بالنسبة لكل الشعوب المحتلة. الآن علينا أن نرفع أصواتها ونتحدث عن أنفسنا بأنفسنا، من أجل تغيير الصور النمطية وكشف الحقيقة.

getty

  • هل أصبحت الحرب موضوعًا أساسيًا في الأدب الأوكراني؟ وكيف يتم تقديمها؟

ثيمة الحرب حاضرة في الأدب الأوكراني منذ عام 2014، منذ أن بدأت أول مرة. بل ولاقت بعض الروايات [التي كتبت في هذا الموضوع]، كـ "أمادوكا" لصوفيا أندروخوفيتش أو "الابنة" لتامارا هوريخا زيرنيا، نجاحًا كبيرًا وشهرةً. وفي نفس الوقت، ظهر نوع جديد في أدبنا، وهو ما نسميه "أدب المحاربين القدامى"، والذي كتبه جنود شاركوا في المعارك في الشرق، سواء كانوا كتابًا محترفين أو هواة. قبيل غزو 2022، كان هؤلاء المحاربي-الكتاب يحسون بنوع من التهميش داخل المشهد الأدبي، لكن أعتقد أن هذا الأمر سيتغير بعد انتصارنا. لأنه على الأقل الآن الكثير من الكتاب، وحتى المدنيين، يحسون أثر الحرب على حيواتهم، كما لأنه سيصبح لدينا عدد كبير من المحاربين القدامى أكثر من ذي قبل. فبينما حاول الكثير إيهام نفسه بأن حرب 2014-2015 لم تحصل قط، الآن الحرب هي تجربة بلد بأكمله. وبطبيعة الحال، أصبحنا نرى أكثر فأكثر كتبًا حول الحرب. الآن هي بالأساس دواوين شعرية وأنطولوجيات، تنشر في أوكرانيا والخارج، لأن الشعر هو الأسرع في اقتناص اللحظة الراهنة. مجددًا، أصبحنا نرى اقتحام عدد من المستجدين الكتابة الشعرية، وهذا أمر سيئ من وجهة نظر أدبية، لكن كتاباتهم تكتسب أهميتها من كونها توثق الحرب.

إيلا ييفتوشينكو:  أصبحنا نرى أكثر فأكثر كتبًا حول الحرب. الآن هي بالأساس دواوين شعرية وأنطولوجيات، تنشر في أوكرانيا والخارج، لأن الشعر هو الأسرع في اقتناص اللحظة الراهنة

من ناحية أخرى، الشعراء "المحترفون" أيضًا كتبوا عدة نصوص جديدة. بعضهم أصبح جنديًا فكتب عن هذه التجربة. والبعض كتب عن أشياء أكثر كونية، كالتاريخ واللغة والذاكرة. البعض سرد قصص الآخرين؛ الجنود، اللاجئين، الضحايا. والبعض الآخر قارب الحرب بالسخرية أو سرد قصص الحب وسط المعارك. ومهما كان الأمر مرعبًا، فإن الحرب أصبحت للكثير منا معاشًا يوميًا، وهو ما ينعكس في نصوصنا الشعرية.

  • كيف ينعكس الصراع بين أوكرانيا وروسيا في مجال الثقافة بشكل عام؟ وفي الأدب بشكل خاص؟

لأزمنة طويلة وأوكرانيا تحاول الانعتاق من القبضة الروسية، وهو ما انعكس دائمًا في ثقافتنا. [فعلى سبيل المثال] في أواسط القرن التاسع عشر، كتب تاراس شفشينكو: "مارسن الحب، أيتها الشابات ذوات الحواجب الكحلية، [مارسن الحب] لكن ليس مع الموسكوفيين". وتحكي القصة عن فلاحة أوكرانية شابة تقع في غرام جندي روسي، فتحمل منه فيتخلى عنها ويختفي؛ تُنبذ الفتاة من كل أهل القرية، بمن فيهم والديها، تنجب طفلها، ثم تنتحر. هنا يمكننا أن نرى التشابه الكبير ما بين قصة الشابة وبين تاريخ بلادنا أوكرانيا.

منذ منتصف القرن التاسع عشر، عندما بدأت الأمة الأوكرانية في التشكل، كان هناك كتاب وفنانون، مع أنهم نشأوا قسرًا في بيئة روسية، اختاروا أن يكونوا جزءًا من الثقافة الأوكرانية، اختاروا اللغة والهوية الأوكرانية. فيما تجعل لغة العمل الأدبي من السهل بشكل أو بآخر تصنيف الكتاب بين روس وأوكران، يصبح الأمر أكثر تعقيدًا بالنسبة للفن التشكيلي، إذ أن الكثير من الفنانين تنسبهم روسيا لنفسها هم في الحقيقة كانوا يعتبرون أنفسهم أوكرانيين. [أقصد هنا] أسماء مشهورة على الصعيد العالمي مثل إليا ريبين، كازيمير ماليفيتش أو ألكسندرا إكسرتر. وهذا جزء من صراعنا أيضًا، حيث بدأنا الآن بتغيير هذه الصور النمطية عبر أداة الديبلوماسية الثقافية.

وإذا انتقلنا للحديث عن الحرب الجارية، أعتقد (وربما هي فقط وجهة نظري الذاتية) أن هذا الصراع موجه الآن أكثر نحو الخارج. أصبح الناس في الخارج يسعون أكثر لمعرفة ما يقع هنا وما هي أسبابه، فيما الفن هو الطريق الأنسب لشرح ذلك. بينما الناس في أوكرانيا لم يبدؤوا بعد التفكير بشكلٍ معمق في الحرب، التي لازالت حامية الوطيس. مؤخرًا تم الإعلان عن فيلم حول مذبحة بوتشا: وهو ما أثار موجة غضب كبيرة، لكون الجرح لا يزال مفتوحًا، وعلى ما يبدو قرر منتج الفيلم استغلال ذلك والتربح منه. أنا متأكدة بأنه سيكون هناك مختلف أنواع الإنتاجات الثقافية حول هذه الحرب، لكن ستأتي لاحقًا عندما تحل المشكلة بشكل أو بآخر، وعندما تكون لدينا المسافة الكافية للنظر إلى الأشياء بشكل أوضح.

  • هل من الصحيح أن تصنيف الأدب الأوكراني بأنه أدب "ما بعد سوفييتي" لا يعبر عن الهوية الحقيقية لهذا الأدب؟

لا يمكنني أن أفهم كيف لأدب تاريخه لألف عام أن يصنف على أنه أدب ما بعد سوفيتي! في الكثير من المرات توصف أوكرانيا بأنه "دولة ما بعد سوفيتية"، وهذا مفهوم لكونها لم تنل استقلالها إلّا بعد سقوط الاتحاد السوفييتي، بالرغم من أننا لا نحب ذلك الوصف. لكن عندما يتعلق الأمر بأدبنا، الذي تعود بداياته إلى القرن الثاني عشر، مع تقليد كتابة الحوليات، واستمر ذلك مع الكتابات الدينية وأدب المحاورات في القرنين الخامس عشر والسابع عشر، وازدهر عبر فلسفة وشعر العصر الباروكي في القرن الثامن عشر، وبعدها اكتسب طابع الوطني في القرن التاسع عشر. وفي العشرينيات من القرن العشرين، مررنا بعقد زخم بالتجارب الطليعية، التي اغتالها السوفييت وأتلفوا 98 % من الأعمال تلك الحقبة فعليًا، ودمروا البقية معنويًا. أدبنا مرّ بنفس التحولات والأنماط التي مر بها أيّ أدب أوروبي، عكس الأدب الروسي الذي بدأ مباشرة من المدرسة الكلاسيكية ولم يمر عبر التقليد الباروكي.

وبطبيعة الحال، يمكن لأي أحد أن يسمي الأدب الأوكراني المعاصر بأنه "ما بعد سوفييتي" ارتباطًا بالحقبة التي بدأ فيها تطوره، لكنها الوصف قد يفترض بأننا نشترك في سمات معينة مع أدب كل الفضاء السوفييتي سابقًا، وهو ما أشك في صحته؛ فلدينا سمات مشتركة مع الأدب البولندي والتشيكي، أكثر مما لدينا مع الأدب الأوزبكي والطاجيكي.

إيلا ييفتوشينكو: ما الذي يقوم به الكتاب الأوكران لإبراز هويتهم؟ يقومون بما يقوم به أي كاتب: يكتبون، ويتحدثون إلى الناس من كل بقاع العالم، لشرح وتوضيح هذه الخصوصيات

  • ما الذي يقوم به الكتاب والأدباء الأوكران لإبراز هذه الهوية الخاصة؟ ولتمييز أنفسهم عن التصنيف كأدب ما بعد سوفييتي؟

كما تعلم، أجد صعوبة بالغة في مناقشة مصطلح "ما بعد السوفييت"، لأنه لا يعني لي شيئًا ببساطة. لم أعش قط تحت حكم الاتحاد السوفييتي، بالتالي بالنسبة لي أوكرانيا ليست دولة ما بعد سوفييتية؛ هي فقط البلاد التي عشت فيها حياتي كلها، وكان ذلك طبيعيًا جدًا. وحتى بالنظر إلى الوراء، أوكرانيا كانت دائمًا بالنسبة لي شيئًا مختلفًا عن روسيا، ومنفصلًا عنها.

حقيقة، ما يربكني في سؤالك: أنه ليس توصيف الأدب الأوكراني كـ"ما بعد سوفييتي" هو المشكلة الأكبر، بل توصيفه على أنه أدب روسي. من التجربة الخاصة، لطالما ينظر الأجانب إلينا على أننا "روسيا أخرى"، "روسيا صغيرة"، "جزء آخر من روسيا"، فقط لأننا كنا مستعمرة روسية، بما في ذلك الحقبة السوفييتية. وأن روسيا حاولت مرارًا تدمير الهوية الأوكرانية وتحويلنا إلى روس؛ وهو الفرق في نظري بين الإمبراطورية الروسية والإمبراطوريات الغربية كبريطانيا وفرنسا.

لكن، ما الذي يقوم به الكتاب الأوكران لإبراز هويتهم؟ يقومون بما يقوم به أي كاتب: يكتبون، ويتحدثون إلى الناس من كل بقاع العالم، لشرح وتوضيح هذه الخصوصيات.

وبخصوص الكتابة، أعتقد أن الكتاب الأوكرانيين يحفرون عميقًا في تربة مشاكلنا الخاصة. وهو أمر مفهوم، بما أننا في خضم دينامية التطور كأمة. لنأخذ مثلًا لائحة أفضل الكتابات الأمريكية، أو الفرنسية، أو كتابات أيّ بلد غربي، ولنقارنها بنظيرتها الأوكرانية: ستجد أكثر كتاباتنا، من التي تعود لقرن مضى إلى تلك التي لم تكتب بعد، تعالج في معظمها مواضيع هويتنا وتاريخنا وصدماتنا الجمعية.